بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه، ومن والاه، وبعد:
فيا أيها القارئ الكريم اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سَمَّى النصيحة دِيناً، فَقَاَلَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ». أخرجه مُسلم، وجعلها من حقوق المسلمين فيما بينهم، وبايع بعض صحابته على النُّصح لكل مسلم، فَعَنْ جَرِير بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: «بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ عَلَى إِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ». أخرجه البخاري، وعَدّد جوانب النصح ومجالاته، فَقَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» قُلْنَا لِمَنْ قَالَ: «لِلَّهِ وَلِرَسُولِه َولِكِتَابِهِ ِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ». أخرجه مُسلم، ولكن بسبب قلة الاتباع، وقلة العلم، يرى الواحد منا تجاوزات على حقوق الناس باسم النصيحة، ويُشاهد فظاظةً، وغلظةً، وشططاً دونما مراعاة لأحكام النصيحة، مع العلم بأن للنصيحة أحكامًا وآداباً تُعرف عند أهل العلم، منها:
أولاً: تعريفها:
النَّصِيحَةُ في اللغة: يُقَال: نَصَحَ الشَّيْء إِذَا خَلُصَ، وَنَصَحَ لَهُ الْقَوْل إِذَا أَخْلَصَهُ لَهُ، أَوْ مُشْتَقَّة مِنْ النُّصْح، وَهِيَ الْخِيَاطَة بِالْمِنْصَحَةِ، وَهِيَ الإِبْرَة، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَلُمّ شَعَث أَخِيهِ بِالنُّصْحِ؛ كَمَا تَلُمّ الْمِنْصَحَة، وَمِنْهُ التَّوْبَة النَّصُوح، كَأَنَّ الذَّنْب يُمَزِّق الدِّين وَالتَّوْبَة تَخِيطهُ. انظر: فتح الباري، وَقِيلَ: إِنَّهَا مَأْخُوذَة مِنْ نَصَحْت الْعَسَلَ إِذَا صَفَّيْته مِنْ الشَّمْع، شَبَّهُوا تَخْلِيصَ الْقَوْل مِنْ الْغِشّ بِتَخْلِيصِ الْعَسَل مِنْ الْخَلْط. انظر: شرح مسلم.
النَّصِيحَةُ في الاصطلاح: قَالَ الإِمَام أَبُو سُلَيْمَان الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّه
( النَّصِيحَة كِلْمَة جَامِعَة مَعْنَاهَا حِيَازَة الْحَظّ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ، وَهِيَ مِنْ وَجِيز الْكَلاَم، بَلْ لَيْسَ فِي الْكَلاَم كِلْمَة مُفْرَدَة تُسْتَوْفَى بِهَا الْعِبَارَة عَنْ مَعْنَى هَذِهِ الْكَلِمَة)). فتح الباري.
ثانياً: النصيحة في الكتاب والسنة:
أولاً: في الكتاب: ذُكرَ النصح في كتاب الله في عدد من الآيات؛ معظمها على لسان أنبياء الله عليهم السلام، الذين هم أنصح الخلق وأخلصهم، والذين بذلوا جهدهم في نصح أقوامهم؛ فاستجاب لهم قلة، وخالفهم الأكثرون. قال تعالى على لسان نوح عليه السلام: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف:62]، وقال تعالى على لسان هود عليه السلام: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف:68]، وقال تعالى على لسان صالح عليه السلام بعد إهلاك قومه: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لاَ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:79]، وقال تعالى على لسان شعيب عليه السلام بعد إهلاك قومه أيضاً: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} [الأعراف:93]، وقال تعالى في موضع آخر عن أصحاب الأعذار الذين تخلَّفوا عن الجهاد مع رسول الله في غزوة تبوك، وقد عذرهم الله تعالى، فقال عَزَّ مِن قائل: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:91]، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره: «فليس على هؤلاء حَرَج إذا قعدوا ونصحوا في حال قعودهم، ولم يرجفوا بالناس، ولم يُثَبِّطوهم، وهم محسنون في حالهم هذا». تفسير ابن كثير.
هذا والله مِن وراء القصد، وهو يهدي السبيل.
والحمد لله رب العالمين